صدر أخيرا، عن معهد السياسة والمجتمع للدراسات والأبحاث، كتاب بعنوان: "الشباب الأردني ومئوية الدولة.. السرديات التاريخية، والتحديات الراهنة ورهانات المستقبل".
ولأن العنوان عتبة النص، فإن الكتاب ضم بين دفتيه خلاصة حوارات ونقاشات نظمها المعهد مع اثني عشر سياسيا وأكاديميا وباحثا، تمحورت حول الدولة الأردنية في مئويتها الأولى، استمرت لعدة أسابيع، وذلك قبيل الإعلان عن تشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية بأيام.
وجرى تقسم الكتاب، الذي أعده للنشر وحرره الباحثان عبدالله الجبور وهيثم حسّان، إلى ثلاثة فصول، تركّز الأول على تاريخ الدولة الأردنية، فيما قرأ الثاني التحولات السياسية، وخصص الأخير للاقتصاد السياسي والأردن الممكن.
تكمن أهمية الكتاب الحقيقية في عمق التجارب التي حملها المتحدثون أنفسهم إلى تلك الحوارات، والذين أثروها بتجاربهم الشخصية مع المغفور له الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، فكانت قراءاتهم وتحليلاتهم بمثابة إضاءات فكرية استنار بها الشباب خلال ساعات النقاش.
الحوارات والنقاشات بين المتحدثين والشباب المشاركين، التي نظمها المعهد، كانت عبارة عن عملية “مجايلة” تنقل تجارب جيل وإنجازاته (وإخفاقاته) بسلاسة لا قسرية إلى الجيل الآخر، بعيدا عن عقدتي “الأستذة” و”التلمذة”، وهي تمثل محاولة عملية جادة لردم القطيعة بين الأجيال، من أجل بناء رواية سردية كبرى للدولة الأردنية وهي تلج مئويتها الثانية.
فغياب تلك السردية، أدى إلى فراغ ملأته روايات نسجها الخصوم والأعداء، وفق ما يقول الدكتور محمد أبو رمان، الذي كلل الكتاب بتقديم ضاف، أكد فيه أنه ليس المقصود والمطلوب أن نبني رواية دفاعية عن الأردن تاريخا ومسارا، ولا محاكمة لأشخاص بعينهم، بل يريد من كل ذلك، وبكلمة واحدة، “الإنصاف لهذا الوطن”، وما يعنيه ذلك، بالضرورة، من بناء ثقافة وطنية أردنية طال غيابها، وإلا سنبقى نراوح مكاننا في متاهة تعريف الأردن والأردني وهوية الدولة.
ودوّن الكتاب حواريات الخبراء والمفكرين والمؤرخين والاقتصاديين والقانونيين مع الشباب، بما حملته من تساؤلات؛ حيث قدم الدكتور مهند مبيضين قراءة للمجتمع الأردني ما قبل الإمارة، بتوليفته المتنوعة، مشيرا إلى وعي القبائل البدوية المبكر، وتحديدا قبائل بني حسن، للمخططات الصهيونية، وهو ما جعل مناطقهم محرمة على المستشرقين.
وفي جلسة الدكتور مصطفى الحمارنة، يطغى التحليل العميق على كل حدث تاريخي، (قد نمرّ عليه نحن دون توقف)، بل يكاد في قراءاته أن ينتج رواية موازية، لكنها أكثر تبصّرا وعقلانية، ومنطقية.. وقد طالب في حواريته بحوار وطني هادف لإنتاج قانون انتخاب يساعد في التنمية السياسية ويحد من سطوة الهوية الفرعية، وهو ما تحقق؛ كله أو جلّه، خلال فترة قصيرة عبر اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، التي كان أحد أعضائها.
أما شيخ المؤرخين الدكتور علي محافظة، فقد عاد بنا إلى عهد الحسين بن طلال، رحمه الله، وكيف أمسك بمفتاح النهضة الأبرز وهو التعليم، آخذا على الحكومات السابقة إهمالها للأرشفة وحفظ الوثائق، لدرجة أصبحنا دولة “ضعيفة الذاكرة”.
أما دروس المفكر عدنان أبوعودة فمثلت متوالية هندسية في الحواريات، نمّت عن صاحب عقل متوقد، ورؤية ثاقبة، رافقت الراحل الحسين في العديد من المحطات، وكأن الخرائط لا تفارق يد الرجل أو عقله، فعند أي قرار يعيد التأمل مجددا بتلك الخرائط ليسمع ما تقوله الجغرافيا، من موقع جيوسياسي، ثم يبحث عن العمق الاستراتيجي (وهو عنصر متغير) مرة وأخرى، متكئا في كل ذلك على وطن شرعية نظامه هاشمية، أعرق سلالات العرب وأشرفها، وامتداده الثورة العربية الكبرى، لكن هذا الرجل القادم من عمق التاريخ، لا يكل ولا يمل عن مفاجأتنا بآرائه المفعمة، فهو يرى في الربيع العربي “أملا”، لا بل ويعتقد أنه “لم ينته بعد”.
وفي الكتاب قراءة من وزير الداخلية الأسبق، حسين المجالي، عن تحدي الاستقرار الذي يواجهه الأردن، وكذلك قراءة للكاتب جمال الطاهات عن النموذج الأردني في مئويتين، وكذلك لحوارية مشتركة للعين جميل النمري والنائب عمر عياصرة حول الإصلاح السياسي وهي جلسة تزخر بالأفكار والطروحات.
وفي الكتاب كذلك، قراءة للمواطنة والمساواة في البعد الدستوري والقانوني للمحامي والناشط السياسي سائد كراجة، ومن ثم قراءة في الجيويوليتيك وصناعة السياسة الخارجية الأردنية للدكتور عامر السبايلة، وكانت مهمة شائكة للباحث الذي أجاد القراءة التحليلية رغم الرمال المتحركة، وتمكن من توصيف العلاقة الملتبسة مع “إسرائيل”، مطالبا الحكومة بـ”الوصفة” في العلاقة مع تل أبيب.
وفي الكتاب، ثمة حالة تفاؤلية فائضة، خرجت من جلسة إبراهيم غرايبة، والتي كانت بعنوان ”الأردن الممكن”، وهو عنوان كتابه الصادر أخيرا، وكذلك جلسة للوزير السابق والخبير الاقتصادي إبراهيم سيف حول تحديات الاقتصاد الوطني قراءة من التاريخ إلى المستقبل، وفي الختام أرسى مجموعة من الشباب رؤاهم ورسخوا طروحاتهم في جلسة جماعية عن المئوية من منظورهم، وإن لم تخل من تشاؤمية الناشط السياسي الشاب حسين الصرايرة.
(الغد)
22/11/2021